رحل جوزف سماحة. رحل للمرة الأخيرة.
كان قبل هذه المرة يرحل ويعود، يختفي ويظهر، يتنقّل بهدوء بين المدن والصحف، يهرب بعيونه الخفرة ونظراته الساخرة بين التجارب، ويثير في كل رحلة وفي كل عودة غباراً من الكلمات وغيوماً من الأسئلة والصخب.
رحل جوزف سماحة حاملاً خجله وظرفه، دقّته وألمعيّته، قسوة قلمه وحنان قلبه، لهجته المحبّبة ومشيته الرشيقة ونهمه الدائم.
لم يترك لنا فسحة لنعاود اللقاء، لنكمل مساراً تعرّج في العامين الأخيرين ثم انقطع مع انطفاء الحياة في بيروت.
كان جوزف صديقاً عزيزاً، ثم صار صديقاً مع شيء من الخصومة، ثم صار خصماً مع شيء من الصداقة. ثم عُلّقت الصداقة الى موعد مؤجّل تستطلع أوانه بعض السلامات والإشارات المرسلة عبر الأحبّاء المشتركين.
كانت ذكريات النقاش والتحليل والاختلاف والضحك والطرب معه تعود كلما فعل الغضب من مقالاته فعله. كان مكره عند تنكيله الموفّق ببعض "الرفاق" و"الحلفاء" ينتزع الابتسامات رغم الغيظ السياسي. وكان هذا الغيظ كبيراً بحجم الحب له، بحجم الإعجاب به، بحجم الساعات التي تبخّرت مع احتراق سجائر الجيتان خلال الاجتماعات السياسية والصحفية معه.
كان جوزف مصدر إلهام وتحفيز سياسي تماشياً معه أو رداً عليه. كان في معظم الاحيان قارئاً متخيًّلاً لأكثر الكتّاب الذين عرفوه. يتخيّلون ردود فعله وهم يكتبون مقالاتهم، ويحاولون سلفاً تقدير تعليقاته قبل أن يقفوا على البعض منها في اقتتاحياته في "السفير" و"الأخبار"...
قصة جوزف هي قصة جيل يساري كامل. جيل هو زهرة أجيال لبنان والعالم العربي. جيل اجتهد وجدّ وبنى قصوراً وأحلاماً، لكنها كانت من دون أرض تقف عيها. من دون تراكم. فراحت تنهار. الواحد منها ينهار تلو الآخر. مشاريع بأكملها اندحرت. هبطت من مكان الى مكان، ولم تخلّف سوى التمزّق والموت، وسوى المزيد من حبّ الحياة والتعلّق بالأحلام والأوهام والحقائق المرعبة.
قصة كتب حازم من دون أن يدري أجمل رثاء لها في كتابه الأخير "هذه ليست سيرة". أو بالأحرى، كتب خوفه من رثائها، فحاول في "صيغة النفي" أن ينزع عنها اكتمالها. أن يفتحها على أفق لا يستوجب رثاء. أن يبدّل تسلسل الفصول وسط السبل المتعرّجة التي فرّقت بعضَ مسالكها الخياراتُ والأحداث والأمكنة...
لكن السيرة اكتملت، وأسدلت فصولها على موت موحش وعلى فقدان أخير.
زياد ماجد