Wednesday, March 25, 2015

عن مُحيلي "داعش" الى ماهيّة واحدةٍ لا أكثر

يظنّ بعض الكتّاب والصحافيّين العرب أنهم في ما يسموّنه "نقداً ذاتياً جذرياً" أكثر شجاعةً أو أكثر نباهةً من زملائهم الذين لا يرون في أنفسهم سوى الخير وفي "الغرب" سوى مصدر الخبث والشرور.
والحقّ أن التدقيق في ما يذهبون إليه غالباً من مذمّة عشوائية لمجتمعاتهم بأفرادها وجماعاتها، يُظهر تشابههم وخصومهم تسطيحاً للأمور وطرداً لكلّ عناصر علوم السياسة والاجتماع والنفس من خطاباتهم و"تحليلاتهم" وقراءاتهم لما يجري من حولهم، أو بعيداً عنهم.
 
فالفارق بالمقاربة بين القائلين بـبذور "داعشية" لدى جميع المسلمين (أي المليار والأربع مئة مليون "مسلم" المنتشرين بين إندونيسيا والمغرب أو المولودين والمتكاثرين في "الغرب") وأولئك المُكتفين باعتبار تنظيمَي "داعش" و"القاعدة" جهازين مخابراتيّين أنشأتهما الإمبريالية والصهيونية (على اعتبارهم أن الإسلام متسامح وهو منهما براء)، فارق ضئيل إن لم نقُل إنه معدوم، لأنه في الحالتين يرفض النظر الى قضايا شديدة التعقيد والتركيب ومتعدّدة المراجع وعناصر التكوين بنظرةٍ تحمل ما قد يتيح فهم التعقيد والتركيب هذين. ولأنه في الحالتين أيضاً يُخرج المواضيع التي يتعامل معها من سياقاتها الزمنية والمكانية ومن كونها متحرّكة متبدّلة أو قابلة للتبديل وفق الظروف والتطوّرات وتوازنات القوى، فيصفُها وكأنّها معطىً ثابتاً أبداً.

والفارق كذلك بين اعتبار أن ثمة استحالة للتقدّم والديمقراطية في المجتمعات المسلمة، واستحالة للكفّ عن العدوانية والتآمر ضد هذه المجتمعات في دول الغرب، فارق محدود مفاده أن القابليّات السياسية محدّدة "جينياً" تبع مناطق العالم وتجمّعاته العمرانية. فهنا لا أمل للحرّيات وهناك لا مجال لغير المكائد.

والفارق بين الذين يفسّرون الإرهاب والعنف الضاربين مؤخّراً في فرنسا أو بلجيكا وفق نفس التفسير المرتبط بهذين العنف والإرهاب المُمارسَين منذ سنوات في العراق وسوريا أو في اليمن أو في أو في ليبيا الآن لأن مصدرهما واحد (إسلامي - "داعشي")، وبين أولئك الذين ينسبون العنف والإرهاب الى مخلّفات الاستعمار الفرنسي والاوروبي متناسين أنه أفل قبل عقود واستُبدل بأنظمة وطنية (بعضها طرده) فاقت سوءاً في قمعها وفسادها كل ما يُنسب إليه من مثالب، الفارق بينهم واهٍ. ويمكن لما يقولونه أن يُستخدم بدوره في أي مكان وزمان بما يُخفي كلّ ضرورة للبحث في تشكّل الأزمات وأسباب تفاقمها ثم انفجارها.


أما علما السياسة والاجتماع ونظرّياتهما حول الدولة والمجتمع، وأما علم النفس وتحليله لآليات العنف الفردي والجماعي وأسباب انفجاره، فلا مكان لها تماماً كما لا مكان للاقتصاد ولغيره من الحقول في أي "تحليل" يحملونه.
ذلك أن ثمة في عرفهم "إسلاماً" من جهة و"غرباً" من جهة ثانية، ولا بدّ لهما أن يتصادما. أوليس هذا، بالمناسبة، ما تقوله "داعش" ومثيلاتها أيضاً؟

قد يكون المطلوب اليوم، بدل الاستسلام للنماذج التبسيطية والتسطيحية السائدة، أن يجري البحث الجدّي في علاقة "داعش" بالأوضاع المتبدّلة في بعض الدول العربية في السنوات العشر الأخيرة، وعلاقتها بالمعطى المذهبي المتفاقم في المشرق العربي، وبالسياسات الأميركية والإيرانية وتبعاتهما في العراق بعد العام 2003 ثم في سوريا بعد العام 2011، وعلاقتها بالاستبداد الذي هشّم الحياة السياسية في أكثر من بلد واستبدل السياسة بالعنف، وعلاقتها بشبكات تمويل خليجية نافذة، وعلاقتها بالإعلام وجاذبية الهمجية المصوّرة وإثارتها، وعلاقتها بتوازنات القوى العسكرية والخبرات القتالية المكتسبة في سوريا والعراق، وعلاقتها بعلم النفس وتفسيره لِتوق شبّان "أوروبيين" مسحوقين أو مختلّين أو مهمّشين في القرن الواحد والعشرين الى ما يُعيد إليهم سطوة أو حظوة مفقودة، وكذلك علاقتها بنصوص وممارسات دينية إسلامية متقادمة ما زالت نماذج أو ملاجئ للفاشلين في مواجهة تحدّيات الراهن يُشهرونها بدائل "سهلةً" لتعقيداته. على أنها بدائل قبيحة شاذة بمقياس قِيم اليوم، في حين أنها كانت غير مُستغربة قبل قرون، لا هنا ولا في أي بقعة من المعمورة... وهذا يُعيدنا الى ما بدأنا به: ضرورة إعمال العلوم الإنسانية لقراءة الظواهر في كل مرحلة عوَض البقاء في التعميمات والادّعاءات المتهافتة.
زياد ماجد