Wednesday, June 24, 2015

إريك رولو: ستّون عاماً للصحافة، ستّون عاماً للشرق الأوسط

رحل أريك رولو (إيلي رفّول) في شهر شباط/فبراير الفائت عن واحد وتسعين عاماً، أمضى أكثر من ستّين منها في تغطية أحوال الشرق الأوسط وتحوّلاته ومقابلة الفاعلين فيه.

النص التالي عرضٌ لبعضِ سيرة الرجل الاستثنائية بين الصحافة والديبلوماسية والتأريخ.

في صيف العام 1926، وُلد إيلي رفّول في هليوبوليس، إحدى ضواحي القاهرة، في عائلة يهودية مصرية.
درس الحقوق في جامعة الجيزة، وتعرّف خلال الدراسة والأنشطة الطلابية الى الحركة الشيوعية المصرية واعتنق الماركسية، كما تعرّف الى ناشطين من أقصى اليسار الصهيوني ومن "الصندوق الوطني اليهودي"، وبدأ بالكتابة، وهو في السابعة عشرة من عمره، في جريدة الـ"غازيت المصرية" الناطقة باللغة الانكليزية.

أتاحت له دراسة الحقوق وما رافقها من أنشطة وصلاتٍ سياسية وعمل صحافي، في لحظة احتدام الصراع العربي الصهيوني في فلسطين، مقاربةً للمسألة اليهودية أبعدته عن مقاربات التيارات الصهيونية المختلفة، بمعنى أنه لم يرَ في تحويل اليهودية الى قضية قومية ما يجذبه، وهو المصري الماركسي المنجذب ثقافياً الى فرنسا وآدابها. فانتسب في العام 1945 الى "حدتو" (الحركة الديمقراطية للتحرّر الوطني)، أكبر المنظمّات الشيوعية المصرية التي كان هنري كورييل أبرز مؤسّسيها، وشارك في الانتفاضة الشعبية ضد الإنكليز في شباط/فبراير من العام 1946، وكتب عن الكفاح العمّالي وعن القضايا الاجتماعية والسياسية المصرية. وحظي بعد ذلك بثلاث سنوات، بمقابلة صحافية مع حسن البنّا مؤسّس جماعة الأخوان المسلمين وزعيمها (قبل مدّة وجيزة من اغتياله)، وكانت تلك المقابلة أوّل لقاءاته مع الشخصيات المصرية والعربية المؤثّرة.

في الوقت عينه، ونتيجة النكبة الفلسطينية وما تبعها من حملات تشكيك بوطنيّة اليهود المصريّين، تعرّض إيلي رفّول وسواه من يهود مصر (والعالم العربي) لضغوط وصلت في حالته (بسبب نشاطاته السياسية وكتاباته الصحفية) الى حدّ تجريده من الجنسية المصرية وتخيير سلطات الملك فاروق له العام 1951 بين المنفى أو السجن لانتمائه (الفعلي) الى اليسار الشيوعي واتّهامه (الكاذب) بالعلاقة بالحركة الصهيونية.
فدفع الأمر رفّول الى اتخاذ قرار مغادرة مصر الى فرنسا، حيث بدأت مرحلة جديدة من حياته.

عمل رفّول بعد وصوله الى باريس العام 1952 في "وكالة الصحافة الفرنسية"، مغطّياً أخبار مصر والعالم العربي، مستفيداً من إلمامه باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية. وفي العام 1955، كتب لأول مرة لجريدة "لوموند"، التي ستصبح مركز عمله إبتداء من العام 1956 وستشهد صفحاتها دورياً مقالاته ومقابلاته وتغطيته لشؤون الشرق الأوسط موقّعة باسم جديد اتّخذه لنفسه: إريك رولو.

الصحافة وتأريخ الأحداث

بين العامين 1956 و1984 كتب رولو مئات المقالات في الجريدة الفرنسية الأوسع تأثيراً، وأجرى عشرات المقابلات وحلّل أحداثاً غيّر بعضها وجه الشرق الأوسط.
فمِن تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي ضد مصر، الى الانقلاب العسكري في تركيا العام 1960، الى لقاء مصطفى البرزاني وشرح "القضية الكردية" ومتابعتها لسنوات، الى حرب العام 1967 وهزيمة الجيوش العربية مروراً بأحداث "أيلول الأسود" في عمّان ثم "الأزمة القبرصية" العام 1974 (وكانت قبرص يومها تُدرج صحافياً ضمن منطقة الشرق الأوسط) ثم الحرب اللبنانية ومن بعدها الثورة الإيرانية العام 1979 والحرب العراقية الإيرانية فالاجتياح الإسرائيلي للبنان وانتقال منظمة التحرير الفلسطينية الى تونس، تابع رولو تطوّرات المنطقة، وزارها عشرات المرّات، وتحوّل الى أحد المراجع التي يعود إليها المهتمّون بفهم الأحداث في فرنسا، سياسيّين وباحثين أكاديميّين.

ولعلّ دعوة جمال عبد الناصر له العام 1963 لمحاورته في القاهرة شكّلت نقطة تحوّل مهمّة في مسيرته الصحافية، ذلك أنها فتحت له الأبواب لاحقاً في أكثر من دولة عربية وجعلته قادراً على محاورة رؤساء وزعماء دول كثر، من الملك حسين الى ياسر عرفات ومن صدام حسين الى حافظ الأسد ومعمّر القذافي، وصولاً الى الإمام الخميني.
أما إسرائيلياً، فقد أتاحت له مكانة "لوموند" ومرجعيّته فيها مقابلة دافيد بن غوريون وغولدا مائير وموشي دايان وإسحق رابين وشيمون بيريز. لكنه تعرّض ابتداءً من منتصف السبعينات، وبخاصة بعد وصول مناحيم بيغين الى رئاسة الحكومة، الى حملات سياسية وإعلامية إسرائيلية اتّهمته بـ"كراهية الذات" وبـ"العمالة لمصر" ثم بـ"دعم منظمة التحرير الفلسطينية"، فقاطعه "الاستبلاشمانت" الاسرائيلي. ونظّمت السفارة الإسرائيلية في باريس أكثر من حملة ضدّه محرّضة على الكتابة الى جريدة "لوموند" للاعتراض على مقالاته وعلى إدارته وصديقه ورفيق دربه مهنياً هايغ كيرازيان (جان غيراس) للقسم الدولي في الجريدة.
على أن حملات الضغط هذه لم تؤثّر على تعامل "لوموند" مع المساحة المتروكة لِرولو ولكتاباته، وهو الذي أمّن للجريدة بحدسه السياسي وبفهمه العميق للديناميات السياسية وبعلاقاته الواسعة السبقَ الصحفي تلو الآخر والتحليل الرصين لخلفيات الأحداث وتداعياتها ومؤدّياتها. ويُسجّل متابعوه أنه تواجد أكثر من مرّة في المكان "المناسب" للصحافيين الراصدين للأخبار الشرق أوسطية، إن في القاهرة في حزيران/يونيو العام 1967 قبل أيام من اندلاع الحرب، أو في عمّان في أيلول/سبتمبر 1970 خلال الصدامات بين الجيش الأردني والمقاتلين الفلسطينيين، أو بعد ذلك بأسبوعين في القاهرة عشيّة وفاة عبد الناصر، أو حتى في نيقوسيا في تموز/يوليو 1974 عشية الانقلاب العسكري المدعوم من أثينا ضد الرئيس مكاريوس.

بهذا، أمكن القول إن تأريخاً لأحداث المنطقة يمكن بناؤه عبر تتبّع كتابات رولو ولقاءاته وروايته للأحداث في مرحلة "لوموند" المذكورة، التي انتهت أوائل الثمانينات مع وصول فرنسوا ميتران الى قصر الإليزيه.


تجربة ديبلوماسية بين تونس وأنقرة

في العام 1984، بعد ثلاث سنوات من تولّيه الرئاسة الفرنسية، كلّف ميتران إريك رولو - الذي عرفه جيداً - بمهمّة "غير رسمية" في ليبيا لإقناع القذافي بسحب قوّاته من تشاد. وقد ساهمت المهمّة تلك، مضافة الى جملة تطوّرات، في تبديل تعامل القذافي مع جارته الجنوبية. كما أنها فتحت أمام رولو مجال خوض المعترك الديبلوماسي، فجرى تعيينه العام 1985 سفيراً لفرنسا في تونس، وكان المنصب ذاك مهمّاً لوجود مقرّ منظّمة التحرير الفلسطينية في العاصمة التونسية، وهو الذي تجمعه علاقة وطيدة بقياداتها. ومن تونس، سافر رولو في مهمّة سرّية الى طهران، ليفاوض القيادة الإيرانية على إطلاق سراح الرهائن الفرنسيّين المحتَجزين في لبنان. لكن مهمّته فشلت لأسباب ردّها البعض الى تنافس داخلي فرنسي عشية انتخابات تشريعية فاز فيها اليمين، وتشكّلت إثرها العام 1986 "حكومة مساكنة" بين الرئيس الاشتراكي ميتران ورئيس حكومته الديغولي جاك شيراك. والأخير، الذي نفى أي مسؤولية لفريقه السياسي في فشل التفاوض مع الإيرانيين، طلب من ميتران عزل رولو، وأصرّ في زيارته الرسمية الأولى الى تونس على ألّا يكون رولو حاضراً. حمى ميتران سفيره لفترة، ثم عيّنه في العام 1988 سفير فرنسا في تركيا، فأمضى ثلاثة أعوام في أنقرة.

في العام 1991 عاد إريك رولو الى باريس، وترك مهامه الديبلوماسية ليتفرّغ من جديد للكتابة التي ستستضيفها هذه المرّة، ولسنوات، صحيفة "لوموند ديبلوماتيك" الشهرية. وظلّ متابعاً عن قرب للمسارات والتطوّرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الشرق أوسطية، معلّقاً عليها. وانضمّ في العام 2009 الى "محكمة راسل من أجل فلسطين" الهادفة الى الضغط من خلال الرأي العام العالمي على الأمم المتّحدة لإنهاء حصانة إسرائيل واحتلالها، وللوصول الى حلّ عادل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

كواليس الشرق الأوسط

نزولاً عند طلب أصدقائه، تفرّغ إريك رولو بين العامين 2011 و2012 لكتابة مذكّراته أو بالأحرى لجمع بعضها وتدوين بعضها الآخر. فأصدر في تشرين الأول/أكتوبر العام 2012 في باريس كتابه (بالفرنسية) "في كواليس الشرق الأوسط، مذكّرات صحافي ديبلوماسي (1952 – 2012)". وضمّنه تجاربه وملاحظاته وسيرته المرافقة لسيرة منطقة عاش فيها وتحدّث بلسانها وكتب عنها ثم عاد إليها وظلّ يتنقّل بين بلدانها لعقود طويلة. كتابه الأخير هذا هو ثالث كتبه، إذ سبق وصدر له العام 1967 مؤلّف (بالفرنسية) بعنوان "العرب وإسرائيل: المعركة الثالثة" تشارك في كتابته مع جان فرنسوا هيلد وجان وسيمون لاكوتير، وصدر له العام 1978 (بالفرنسية، ثم العام 1981 بالانكليزية) كتاب حوارات مع صلاح خلف أبو أياد بعنوان "فلسطينيّ بلا وطن".

في تقديمه لكتاب رولو الأخير، "في كواليس الشرق الأوسط"، يروي الصحافي الفرنسي آلان غريش أن رولو كان يحبّ أن يخبر أصدقاءه ومعارفه عمّا حدث معه يوم "عودته" وزوجته روزي للمرة الأولى لزيارة البيت الذي وُلد فيه وكبر في ضاحية القاهرة أواخر الستينات. فقد استقبله بلطف القاطنون في البيت، بعد أن قرع بابه، وتبيّن له أنهم فلسطينيون. فقال ضاحكاً إن "فلسطينيين يحتلّون بيتي"! ونشأت منذ تلك اللحظة صداقة جمعته الى الفلسطينيّين هؤلاء ظلّ خلالها يحسّ نفسه قريباً إليهم، منزوع الجذور مثلهم...

إريك رولو، المصري الفرنسي، والصحافي الديبلوماسي، واليهودي الفلسطيني، رحل في 25 شباط/فبراير الفائت في أوزيس في جنوب فرنسا تاركاً إرثاً لا مبالغة في اعتباره شهادة بليغة عن أحوال منطقة هي الأكثر اضطراباً في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
زياد ماجد